كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما الإشارة الثانية الواضحة فقد جاءت على لسان امرأة العزيز التي يتجلى أنها آمنت بعقيدة يوسف وأسلمت في النهاية، فيما حكاه عنها السياق القرآني:
{قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}.
وإذا اتضح أن ديانة التوحيد- على هذا المستوى- كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في مصر؛ فلابد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك واستقرت على نطاق واسع في أثناء توليه الحكم، ثم من بعد ذلك في عهد أسر الرعاة. فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت في مصر، لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية!... وهذا يكشف لنا سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني إسرائيل- أي يعقوب- إلى جانب السبب السياسي، وهو أنهم جاءوا واستوطنوا وحكموا واستقروا في عهد ملوك الرعاة الوافدين. فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني إسرائيل أيضا.. وإن كان اختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع. ذلك أن انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعين! فهي العدو الأصيل للطواغيت وحكم الطواغيت وربوبية الطواغيت!
ولقد وردت إشارة إلى هذا الذي نقرره في حكاية القرآن الكريم لقول مؤمن آل فرعون في سورة غافر؛ في دفاعه الإسلامي المجيد عن موسى عليه السلام، في وجه فرعون وملئه عندما هم فرعون بقتل موسى، ليقتل معه الخطر الذي يتهدد ملكه كله من عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى:
{وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر}. إلخ.
فقد كان الصراع الحقيقي بين عقيدة التوحيد التي تفرد الله سبحانه بالربوبية، فتفرده بالعبادة- أي بالدينونة والخضوع والاتباع لحاكميته وحده- وبين الفرعونية التي تقوم على أساس العقيدة الوثنية، ولا تقوم إلا بها.
ولعل التوحيد الناقص المشوه الذي عرف به أخناتون لم يكن إلا أثرا من الآثار المضطربة التي بقيتمن التوحيد الذي نشره يوسف عليه السلام في مصر كما أسلفنا؛ وبخاصة إذا صح ما يقال في التاريخ من أن أم أخناتون كانت آسيوية ولم تكن فرعونية!
وبعد هذا الاستطراد نعود إلى اللمحات الدالة على طبيعة الفترة التاريخية التي وقعت فيها أحداث القصة وتحركت فيها أشخاصها. فنجدها تتجاوز حدود الرقعة المصرية، وتسجل طابع العصر كله. فواضح تماما انطباع هذه الفترة الزمنية بالرؤى والتنبؤات التي لا تقتصر على أرض واحدة، ولا على قوم بأعيانهم.. ونحن نرى هذه الظاهرة واضحة في رؤيا يوسف وتعبيرها وتأويلها في النهاية. وفي رؤيا الفتيين صاحبي السجن. وفي رؤيا الملك في النهاية.. وكلها تتلقى بالاهتمام سواء ممن يرونها أو ممن يسمعونها مما يشي بطابع العصر كله!
وعلى وجه الإجمال فإن القصة غنية بالعناصر الفنية. غنية كذلك بالعنصر الإنساني، حافلة بالانفعال والحركة. وطريقة الأداء تبرز هذه العناصر إبرازا قويا. فضلا على خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثرة، ذات الإيقاع الموسيقي المناسب لكل جو من الأجواء التي يصورها السياق.
في القصة يتجلى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات منوعة واضحة الخطوط والظلال: في حب يعقوب ليوسف وأخيه وحبه لبقية أبنائه. وفي استجاباته الشعورية للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها.
وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات، بحسب ما يرون من تنوع صور الحب الأبوي. وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة؛ فبعضهم يقودهم هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجب تلتقطه بعض السيارة نفورا من الجريمة..
وعنصر المكر والخداع في صور شتى. من مكر إخوة يوسف به، إلى مكر امرأة العزيز يوسف وبزوجها وبالنسوة.
وعنصر الشهوة ونزواتها والاستجابة لها بالاندفاع او بالإحجام. وبالإعجاب والتمني، والاعتصام والتأبي.
وعنصر الندم في بعض ألوانه، والعفو في أوانه. والفرح بتجمع المتفارقين..
وذلك إلى بعض صور المجتمع الجاهلي في طبقة العلية من الملأ: في البيت والسجن والسوق والديوان- في مصر يومذاك. والمجتمع العبراني، وما يسود العصر من الرؤى والتنبؤات.
وتبدأ القصة بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه، فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم، وينصحه بألا يقصها على إخوته كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به فيكيدون له.. ثم تسير القصة بعد ذلك، وكأنما هي تأويل للرؤيا ولما توقعه يعقوب من ورائها حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة، ولم يسر فيها كما سار كتاب العهد القديم بعد هذا الختام الفني الدقيق، الوافي بالغرض الديني كل الوفاء.
وما يسمى بالعقدة الفنية في القصة واضح في قصة يوسف. فهي تبدأ بالرؤيا كما سبق، ويظل تأويلها مجهولا، يتكشف قليلا قليلا، حتى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا طبيعيا لا تعمل فيه ولا اصطناع!
والقصة مقسمة إلى حلقات. كل حلقة تحتوي جملة مشاهد. والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد يملؤها تخيل القارئ وتصوره، ويكمل ما حذف من حركات وأقوال، مع ما في هذا من تشويق ومتاع..
وحسبنا هذا القدر من التحليل الفني لقصة يوسف، وتمثيلها للمنهج القرآني الإسلامي في الأداء. وفي هذا القدر ما يكشف عن مدى الإمكانيات التي يعرضها هذا المنهج للمحاولات البشرية في الأدب الإسلامي،لتمكينه من الأداء الفني الكامل والواقعية الصادقة السليمة، دون أن يسف أو يحتاج إلى التخلي عن النظافة اللائقة بفن يقدم ل الإنسان!
وتبقى وراء ذلك كله عبرة القصة وقيمتها في مجال الحركة الإسلامية؛ وإيحاءاتها المتوافية مع حاجات الحركة في بعض مراحلها. ومع حاجاتها الثابتة التي لا تتعلق بمرحلة خاصة منها. إلى جانب الحقائق الكبرى التي تتقرر من خلال سياق القصة، ثم من خلال سياق السورة كلها بعد ذلك. وبخاصة تلك التعقيبات الأخيرة في السورة..
ونكتفي في هذا التقديم للسورة بلمحات سريعة من هذا كله:
لقد أشرنا في مطالع هذا التقديم إلى مناسبة قصة يوسف بجملتها للفترة الحرجة التي كانت تمر بها الحركة الإسلامية في مكة عند نزول السورة، وللشدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة المؤمنة معه يتعرضون لها. وذلك بما تحمل القصة من عرض لابتلاءات أخ كريم للنبي الكريم؛ ثم بما تحمله بعد ذلك من استفزاز من الأرض ثم تمكين.
وهذا الذي سبق أن قررناه يصور لونا من إيحاءات القصة المتوافية مع حاجات الحركة الإسلامية في تلك الفترة؛ ويقرب معنى الطبيعة الحركية لهذا القرآن وهو يزود الدعوة، ويدفع الحركة، ويوجه الجماعة المسلمة توجيها واقعيا إيجابيا محدد الهدف مرسوم الطريق.
كذلك أشرنا في ثنايا تحليل القصة إلى الصورة الواضحة الكاملة الدقيقة الشاملة للإسلام، كما عرضها يوسف عليه السلام. وهي صورة تستحق الوقوف أمامها طويلا..
إنها تقرر ابتداء وحدة العقيدة الإسلامية التي جاء بها الرسل جميعا؛ واستيفاء مقوماتها الأساسية في كل رسالة؛ وقيامها على التوحيد الكامل لله سبحانه، وعلى تقرير ربوبيته للبشر وحده، ودينونة البشر له وحده.. كما تقرر تضمن تلك العقيدة الواحدة للإيمان بالدار الآخرة بصورة واضحة. وهذا التقرير يقطع الطريق على مزاعم ما يسمونه علم الأديان المقارن من أن البشرية لم تعرف التوحيد ولا الآخرة إلا أخيرا جدا، بعد أن اجتازت عقائد التعدد والتثنية بأشكالها وصورها المختلفة؛ وأنها ترقت في معرفة العقيدة كما ترقت في معرفة العلوم والصناعات.. هذه المزاعم التي تتجه إلى تقرير أن الأديان من صنع البشر شأنها شأن العلوم والصناعات.
كذلك هي تقرر طبيعة ديانة التوحيد التي جاء بها الرسل جميعا.. إنه ليس توحيد الألوهية فحسب. ولكنه كذلك توحيد الربوبية.. وتقرير أن الحكم لله وحده في أمر الناس كله؛ وأن هذا التقرير ناشيء من أمر الله سبحانه بألا يعبد إلا إياه. والتعبير القرآني الدقيق في هذه القضية يحدد مدلول العبادة تحديدا دقيقا. فهي الحكم من جانب الله والدينونة من جانب البشر.. وهذا وحده هو الدين القيم فلا دين إذن لله ما لم تكن دينونة الناس لله وحده، وما لم يكن الحكم لله وحده. ولا عبادة لله إذن إذا دان الناس لغير الله فيشأن واحد من شؤون الحياة. فتوحيد الألوهية يقتضي توحيد الربوبية. والربوبية تتمثل في أن يكون الحكم لله.. أو أن تكون العبادة لله.. فهما مترادفان أو متلازمان. والعبادة التي يعتبر بها الناس مسلمين أو غير مسلمين هي الدينونة والخضوع والاتباع لحكم الله دون سواه..
وهذا التقرير القرآني بصورته هذه الجازمة ينتهي كل جدل في اعتبار الناس في أي زمان وفي أي مكان مسلمين أو غير مسلمين، في الدين القيم أم في غير هذا الدين.. فهذا الاعتبار يعد من المعلوم من الدين بالضرورة.. من دان لغير الله وحكم في أي أمر من أمور حياته غير الله، فليس من المسلمين وليس في هذا الدين. ومن أفرد الله سبحانه بالحاكمية ورفض الدينونة لغيره من خلائقه فهو من المسلمين وفي هذا الدين.. وكل ما وراء ذلك تمحل لا يحاوله إلا المهزومون أمام الواقع الثقيل في بيئة من البيئات وفي قرن من القرون! ودين الله واصح. وهذا النص وحده كاف في جعل هذا الحكم من المعلوم من الدين بالضرورة. من جادل فيه فقد جادل في هذا الدين!
ومن الإيحاءات الواردة في ثنايا القصة صورة الإيمان المتجرد الخالص الموصول كما تتجلى في قلبي عبدين صالحين من عباد الله المختارين: يعقوب ويوسف:
فأما يوسف فقد أشرنا من قبل إلى موقفه الأخير متجردا من كل شيء، نافضا عنه كل شيء، متجها إلى ربه، مبتهلا إليه في انكسار وفي خشوع يناجيه:
{رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}.
ولكن هذا الموقف الأخير لم يكن هو كل شيء في هذا الجانب؛ فهو على مدار القصة يقف هذا الموقف، موصولا بربه، يحسه- سبحانه- قريبا منه مستجيبا له:
في موقف الإغراء والفتنة والغواية يهتف: {معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}..
وفي الموقف الآخر وهو يخشى على نفسه الضعف والميل يهتف كذلك: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}..